الغزو المقدوني
غزا الإسكندر الأكبر المقدوني الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في عام 334 قبل الميلاد، وبعد انتصاراته في آسيا الصغرى وصل إلى شمال سورية في عام 333 قبل الميلاد واشتبك مع الفرس مجددا في معركة إسوس الفاصلة والتي قاد الفرس فيها الإمبراطور داريوس الثالث بنفسه وأسفرت عن هزيمة منكرة للفرس فر على إثرها داريوس تاركا زوجته وأمه وبناته سبايا لدى الإسكندر. وبعد هذا الانتصار سار الإسكندر في سورية حتى وصل إلى صور في عام 332 قبل الميلاد وحاصرها حصارا شهيرا نكل على إثره بأهلها.الحروب الديادوخية
توفي الإسكندر في بابل عام 323 قبل الميلاد بدون أن يخلف وريثا، فتقاسم جنرالته الإمبراطورية التي خلفها، وكانت سورية من نصيب لاومدون المتليني Laomedon of Mytilene، وبابل من نصيب سلوقس نيكاتور Seleucus Nicator، أما مصر وليبيا وجزيرة العرب فذهبت لبطليموس.
ثم بدأ التنازع بين القادة اليونانيين على الأراضي، فاندلع ما يعرف بالحروب الديادوخية (حروب الورثة) بين ورثة الاسكندر، فغزا بطليموس فينيقيا وسورية الجوفاء Coele-Syria (وهو مصطلح يوناني كان يطلق على سهل البقاع وفلسطين) عام 318 قبل الميلاد، بعدها غزا أنتيغونوس الأعور Antigonus Monophthalmus سورية بأكملها في عام 313 قبل الميلاد قادما من الشمال، وكان قد غزا بابل في عام 315 مما سبب هروب سلوقس إلى بطليموس وتحالفه معه. عاد بطليموس مجددا واستولى على سورية الجوفاء بعد انتصاره على ديميتريوس ابن أنتيغونوس في معركة غزة عام 312 قبل الميلاد، ورغم أن هذا كان انتصارا مؤقتا عاد بعده أنتيغونوس واستولى على سورية الجوفاء إلا أنه سمح لسلوقس بالعودة إلى بابل والانتصار على أنتيغونوس في الحرب البابلية.واستمر النزاع بين بطليموس وأنتيغونوس على سورية الجوفاء إلى أن هزم أنتيغونيوس وقتل في معركة إبسوس Ipsus بعد أن تحالف ضده ثلاثة من الديادوخات أحدهم سلوقس. وبعد هذه المعركة آلت سورية إلى سلوقس الذي سمح لبطليموس بالاحتفاظ بسورية الجوفاء عرفانا له بجميله عندما أخرج أنتيغونوس سلوقس من بابل.
الإمبراطورية السلوقية
بعد هزيمة أنتيغونوس أمست تحت سيطرة سلوقس إمبراطورية شاسعة تمتد من سورية ال الهند، أي أن إمبراطورية الإسكندر الأكبر كانت بأكملها تحت سيطرته باستثناء آسيا الصغرى وتراقيا واليونان ومصر. عقد سلوقس العزم على غزو آسيا الصغرى وتراقيا واليونان، وكان له أن غزا آسيا الصغرى ولكنه اغتيل قبل أن يعبر إلى تراقيا عام 281 قبل الميلاد.بعد حصول سلوقس على سورية بعد معركة إبسوس جعل منها مركزا لإمبراطوريته، وبنى فيها أربع مدن جديدة واستجلب المستوطنين من اليونان ليقيموا في هذه المدن التي عرفت بالتترابولس السوري وهي:
أنطيوخية على العاصي Antiochia ad Orontem، وهي مدينة أنطاكية في لواء الإسكندرون السليب، سماها سلوقس على اسم والده أنطيوخس Antiochus وجعل منها عاصمة لإمبراطوريته، وقد ازدهرت مدينة أنطاكية في العصر الهيليني ازدهارا عظيما حتى جاوز عدد سكانها الـ 500،000 مما جعلها في بدايات الحقبة الرومانية ثالث أكبر مدينة في العالم بعد روما والإسكندرية التي بناها الإسكندر في مصر. وكانت أنطاكية إحدى أرقى مدن العالم ومنافسة للإسكندرية على زعامة مدن الشرق. وتعتبر أنطاكية مهد الديانة المسيحية خارج فلسطين حيث أن أهلها كانوا أول من اعتنق المسيحية من غير اليهود. وظلت أنطاكية عاصمة لسورية طوال العصر الروماني والبيزنطي حتى الفتح الإسلامي.
سلوقية بييرية Seleucia Pieria، وكانت مرفأ مدينة أنطاكية.
لاوديقية على البحر Laodicea ad Mare، وهي اللاذقية، سماها سلوقس على اسم أمه Laodice.
أفامية Apamea، وتقع على بعد 55 كم شمال غرب حماة، كان فيها بيت مال الدولة السلوقية وكانت من أهم المدن السورية. ظلت مزدهرة طوال العصر الروماني والبيزنطي حتى دمرها الفرس الساسانيون أثناء غزوهم لسورية في القرن السابع الميلادي، وبعد الفتح الإسلامي تم إعمارها وعرفت باسم فامية وظلت مدينة مهمة حتى دمرها زلزال عام 1152 ميلادية في زمن الحروب الصليبية. الحروب السورية
بعد وفاة سلوقس بدأ ورثته بمحاولة توسعة الدولة في آسيا الصغرى وسورية، وأدى هذا إلى نشوء سلسلة من الحروب بين السلوقيين والبطالمة في مصر في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد عرفت بالحروب السورية تنازع فيها الجانبان على سورية الجوفاء والتي كانت تشكل نقطة عبور استراتيجية إلى مصر وتهديدا للحكم البطليمي فيها في حال سقوطها بيد السلوقيين.
تمكن أنطيوخس الثالث الكبير من السيطرة على سورية الجوفاء نهائيا إثر انتصاره على بطليموس الخامس في معركة بانيوم عام 198 قبل الميلاد خلال الحرب السورية الخامسة، ووقع الاثنان معاهدة عام 195 قبل الميلاد اعترف فيها بطليموس بسيادة السلوقيين على سورية الجوفاء وذلك لكي يتفرغ لمواجهة الاضطرابات الداخلية الجسيمة التي كانت تعانيها مصر في حينه. استنزفت الحروب السورية كلا من السلوقيين والبطالمة وتركتهما في النهاية عرضة للغزو على يد الرومان والفرس البارثيين.الحرب الرومانية-السورية
مع صعود الجمهورية الرومانية في الغرب اندلعت حرب باردة بين السلوقيين والرومان تنازع فيها الطرفان على النفوذ في اليونان وآسية الصغرى، وتحولت هذه الحرب إلى حرب ساخنة في عام 192 قبل الميلاد مع اندلاع الحرب الرومانية-السورية في عهد أنطيوخس الثالث والتي دامت أربع سنوات وشمل القتال فيها اليونان وبحر إيجة وآسية الصغرى.
انتهت الحرب بهزيمة كارثية لأنطيوخس حيث اقتضت معاهدة أفامية التي أنهت الحرب انسحاب السلوقيين من آسية الصغرى إلى ما خلف جبال طوروس مما أدى إلى سقوط آسية الصغرى في أيدي حلفاء روما، وأجبر أنطيوخس على دفع تعويضات حرب هائلة بلغت 15،000 طالنطا من الفضة (الطالنط يساوي 26 كغ)، وكان من أهم نتائج الحرب أيضا انسحاب النفوذ السلوقي من اليونان مما أدى إلى وقوعها تحت الهيمنة الرومانية وصارت روما هي القوة الكبرى الوحيدة المهيمنة في البحر الأبيض المتوسط.الحرب السورية السادسة
عاد البطالمة وحاولوا غزو سورية الجوفاء مجددا في الحرب السورية السادسة عام 170 قبل الميلاد، ولكن محاولتهم انتهت بهزيمة كبيرة وقيام أنطيوخس الرابع بغزو مصر وحصار عاصمتها الإسكندرية.اضطر أنطيوخس لإنهاء الحصار والعودة في عام 169 بسبب قيام ثورة اليهود المقبيين في اليهودية، ولكنه عاد وغزا مصر مجددا بعد ذلك واستولى على قبرص التي كانت تابعة للبطالمة. استنجد البطالمة بالرومان قبل وصول أنطيوخس إلى الإسكندرية فأرسل مجلس الشيوخ الروماني مبعوثا إلى الإسكندرية هو غايوس بوبيليوس لاينس والذي خرج لاستقبال أنطيوخس على مشارف الإسكندرية وأبلغه بأنه يحمل إنذارا له من مجلس الشيوخ الروماني يطالبه بالانسحاب من مصر وقبرص فورا، وعندما طلب أنطيوخس مهلة للتفكير رسم بوبيليوس دائرة حوله في الرمال وأخبره أن عليه أن يقرر قبل أن يخطو خارجها. اختار أنطيوخس الإذعان وبهذا انتهت الحرب السورية السادسة ومعها آمال أنطيوخس في ضم مصر إلى حكمه.الهلينة وثورة المقبيين
كانت سياسة الدولة السلوقية في أراضيها هي الهلينة (اليوننة)، وعنى هذا فرض اللغة والثقافة اليونانية، وخلال العصر الهيليني قدمت أعداد كبيرة من المستوطنين اليونانيين إلى سورية وصارت اللغة اليونانية هي اللغة الرئيسية، غير أن اللغة الآرامية (وهي لغة البلاد قبل العصر الهيليني) ظلت محكية وخاصة في الريف.
كانت غالبية سكان سورية الجوفاء في العصر الهيليني من اليهود، ورغم أن قسما كبيرا من اليهود تهلين واعتنق اللغة والثقافة اليونانية -حاله كحال بقية المجموعات في البلاد- إلا أن قسما آخر رفض الهلينة وخاصة في المنطقة الجنوبية من فلسطين والمعروفة حينها باليهودية Iudaea (باللاتيني: يودايا) والتي تحوي بيت المقدس ويتميز سكانها بمحافظتهم على التحدث باللغة العبرية بدلا من الآرامية واليونانية اللتان كانتا محكيتين في بقية أنحاء فلسطين وسورية.
كانت سياسة البطالمة بخلاف السلوقيين تتميز باحترام أكبر للخصوصيات الثقافية والدينية، وعندما استقر الحكم في اليهودية للسلوقيين في عهد أنطيوخس الرابع بدأ أنطيوخس في دعم التيار اليهودي المؤيد للهلينة وتدخل بشكل كبير في تعيينات الكهنة اليهود وقام بفرض الكهنة الذين يوافقون توجهاته دون احترام لآراء اليهود المحافظين. وعندما ثار المحافظون وقاموا بخلع الكاهن الأعلى مينيلاوس والذي نصبه أنطيوخس أعاد أنطيوخس تنصيبه بالقوة ثم شرع في إصدار قوانين تعسفية ضد الديانة اليهودية بدءا من العام 167 حيث أصدر قانونا يحظر تقديم الأضاحي اليهودية ثم قانونا آخر يحظر الختان وعطلة السبت وباقي الأعياد اليهودية، ثم شُرع في نصب مذابح للآلهة اليونانية وتقديم الأضاحي للإله اليوناني زيوس على مذبح الهيكل اليهودي وبلحوم حيوانات محرمة في الشريعة اليهودية وغيرها من الممارسات التي رمت إلى القضاء على الديانة اليهودية. أدت هذه الممارسات إلى نشوء حركة التمرد المقبّيّة في عام 166 بزعامة يهودا المقبي، والتي بدأت في الريف على شكل مجموعات تقوم بتكسير المذابح اليونانية وقتل اليهود الذين يقدمون القرابين عليها وإجبار سكان القرى على إجراء الختان والالتزام بتعاليم الشريعة اليهودية، وتطورت هذه الحركة إلى حرب عصابات ضد الجيش السوري انتهت بدخول المقبيين إلى بيت المقدس وتطهير الهيكل من الرموز الوثنية وإعادة العمل بالشريعة اليهودية، ويحتفل عيد الحانوكة اليهودي بهذه المناسبة.
رد أنطيوخس بإرسال جيش كبير لسحق التمرد ولكن وفاته في ذاك العام أدت إلى رجوع الجيش، وأرسل جيش آخر في عهد سلفه ديمتريوس الأول Demetrius I تمكن من دخول بيت المقدس وإخضاعها، ولكن دخول الدولة السلوقية بعد ذلك في فترة من الانقسامات والصراعات الداخلية بالإضافة إلى تعرضها للضغط المتواصل من قبل روما والفرس البارثيين سمح بتحول اليهودية بحلول عام 143 قبل الميلاد إلى دولة مستقلة فعليا نالت اعتراف مجلس الشيوخ الروماني في عام 139 وعرفت السلالة المقبية الحاكمة لها بعد ذاك بالسلالة الحشمونية.[center]
الحرب الأهلية والانهيار
بعد وفاة أنطيوخس الرابع دخلت الدولة السلوقية في سلسلة من الحروب الأهلية بسبب النزاع على السلطة، وبحلول عام 145 كانت البلاد منقسمة إلى قسمين—قسم يحكمه أنطيوخس السادس ويشمل أنطاكية وما حولها وقسم يحكمه ديميتريوس الثاني من دمشق ويشمل شرق سورية الحالية وبابل وإيران.
ثم بدأت سلسلة الانهيارات في الدولة حيث بعد استقلال اليهودية في عام 143 هزم ديميتريوس الثاني أمام البارثيين في عام 139 وأسر وسقطت الهضبة الإيرانية بالكامل في أيدي البارثيين. استطاع خلف ديمتيريوس الثاني وهو أنطيوخس السابع أن يوحد الدولة مجددا ولكنه هزم أيضا أمام البارثيين وقتل في المعركة عام 129، وسقطت بابل بيد البارثيين. كان سقوط بابل بيد البارثيين بداية التحول في المفهوم التاريخي لكلمة "سورية" Syria حيث أنه بعد ذاك التاريخ تغير مفهوم الكلمة من شمولها لكامل الهلال الخصيب إلى حصرها بساحل المتوسط فقط وهي المنطقة التي بقيت في يد السلوقيين ومن بعدهم الرومان.
بعد مقتل أنطيوخس السابع انتهت الدولة السلوقية فعليا ودخل ما تبقى منها في حرب أهلية دامت أكثر من 65 عاما تنازع فيها أشخاص عديدون على السلطة وتعرضت البلاد خلالها للغزو أكثر من مرة.