قال أبو العباس: وأما الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السر إلى طلبه. وهو من مقامات العوام، وأما الخواص فهو عندهم مخلة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب. ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة والطريق عندهم أن يكون العبد غائباً والحق ظاهراً. ولهذا المعنى لم ينطق بالشوق كتاب ولا سنة صحيحة.
[لأن] الشوق مخبر عن بعد ومشير [إلى] غائب، وهو يطلع إلى إدراك: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ}* [الحديد: 4]، وقيل:
ولا معنى لشكوى الشوق يوماً إلى من لا يزول عن العيـان
اختلف الناس فى الشوق والمحبة أيهما أعلى؟ فقالت طائفة: المحبة أعلى من الشوق هذا قول ابن عطاء وغيره، واحتجوا بأن الشوق غايته أن يكون أثراً من آثار المحبة، ومتولداً عنها: فهى أصله وهو فرعها. قالوا: والمحبة توجب آثاراً كثيرة فمن آثارها الشوق. وقالت طائفة منهم سرى السقطى وغيره: الشوق أعلى. قال الجنيد: سمعت السرى يقول: الشوق أجل مقامات العارف، إذا تحقق فى الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه. وإنما يظهر سر المسألة بذكر فصلين: الأول فى حقيقة الشوق، والثانى فى الفرق بينه وبين المحبة.
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب، وإِن كان بينهما غاية المسافة- ولا سيما إِذا كانت المحبة من الطرفين، وهى محبة بريئة من العلل والشوائب والأَعراض القادحة فيها- فإِن المحب كثيراً ما يستولى محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إِليه وبينهما من البعد ما بينهما، وفى هذه الحال يكون فى قلبه وجوده العلمى، وفى لسانه وجوده اللفظى، فيستولى هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أَن فى عينه وجوده الخارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:
خيالك فى عينى وذكرك فى فمى ومثواك فى قلبـى فأَين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد وما بينهما وإِن قربت الأَبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أَن المثال العلمى غير الحقيقة الخارجية وإِن كان مطابقاً لها لكن المثال العلمى محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأَسماءِ الأَربعة وهى: الأَول، والآخر، والظاهر، والباطن هى أَركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أَن يبلغ فى معرفتها إِلى حيث ينتهى به قواه وفهمه.