فصل
فى أن الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
قال الله سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ}* [فاطر: 15]، بيَّن سبحانه فى هذه الآية أَن فقر العباد إِليه أَمر ذاتى لهم لا ينفك عنهم، كما أَن كونه غنياً حميداً [أمر] ذاتى له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أَوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأَمر أَوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إِمكان، بل هو ذاتى للفقير: فحاجة العبد إِلى ربه لذاته لا لعلة أَوجبت تلك الْحاجة، كما أَن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأَمر أَوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقر لى وصفُ ذاتٍ لازم أبداً كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أَسباب الفقر والحاجة فهى أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته، فما يذكر من إِمكان وحدوث واحتياج فهى أَدلة على الفقر لا أَسباب له، ولهذا كان الصواب فى مسأَلة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله [عز وجل] أَمر ذاتى لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغنى بذاته، ثم يستدل بإِمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأَدلة على هذا الفقر. والمقصود أنه سبحانه أَخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأَنها فقيرة إِليه [عز وجل]، كما أَخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أَنه غنى حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هى، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هى، فيستحيل أن يكون العبد إِلا فقيراً، ويستحيل أَن يكون الرب سبحانه إِلا غنياً، كما أَنه يستحيل أَن يكون العبد إلا عبداً والرب إِلا رباً.
والمقصود أَن القلوب فى هذه الولادة ثلاثة: قلب لم يولد ولم يأْن له بل هو جنين فى بطن الشهوات والغى والجهل والضلال وقلب قد ولد وخرج إِلى فضاءِ التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأَنست بقربه الأَرواح، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأَن بالله، وسكن إِليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إِلى الرفيق الأَعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إِلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضاً ومحبته وقوته، لا يجد من الله عوضاً أبداً، فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جدب قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جذب قلبه عن الله: ((وإِن كان القريب المصافيا)). ووليه من رده إِلى الله وجمع قلبه عليه ((وإن كان البعيد المناويا))، فهذان قلبان متباينان غاية التباين. وقلب ثالث فى البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً، قد أَصبح على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أَشعة التوحيد، تأْبى غلبات الحب والشوق إِلا تقرباً إِلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ فى طاعته وحبه، وتأْبى غلبات الطباع إِلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الدّاعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات، وبقى عليه مفاوز وفلوات. والمقصود أَن صاحب هذا المقام إِذا تحقق به ظاهراً وباطناً، وسلم عن نظر نفسه إِلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقى، ليس فيه قادح من القوادح التى تحطه عن درجة الفقر.
واعلم أَنه يحسن إِعمال اللسان فى ذم الدنيا فى موضعين: أَحدهما موضع التزهيد فيها للراغب، والثانى عندما يرجع به داعى الطبع والنفس إِلى طلبها ولا يأْمن من إِجابة الداعى، فيستحضر فى نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد.
وقوله: ((الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات))، فهذه الدرجة أَرفع من الأولى وأَعلى، والأُولى كالوسيلة إِليها، لأَن فى الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أَن يتأَله غير مولاه الحق، وأَن يضيع أَنفاسه فى غير مرضاته، وأَن يفرق همومه فى غير محابه، وأَن يؤثر عليه فى حال من الأَحوال. فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص [الوداد والمحبة]، فيصبح ويمسى ولا هم له غير ربه، قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإِرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه، كما قيل:
كان يسبى القلب فى كل ليلـه ثمانون بـل تسعون نفسـاً وأَرجـــح
يهيم بهـذا ثـم يأْلــف غيــره ويسلوهـم من فوره حين يصبـح
وقــد كان قلبى ضائعاً قبل حبكم فكــان بحب الخلـق يلهو ويمرح
فلمــا دعا قلبـى هواك أَجابــه فلست أَراه عـن خـبائك يبرح
حرمت الأَمانى منك إِن كنت كاذباً وإِن كنت فـى الدنيا بغيرك أَفرحوإِن كان شيء فى الوجود سواكـم يقرَّ به القلب الجريـح ويفــرح
إِذا لعبـت أَيـدى الهوى بمحبكـم فليس له عن بابكـم متـزحزح
فـإِن أَدركته غربـة عن دياركـم فحبكـم بيـن الحشا ليس يبـرح
وكم مشتر فى الخلق قد سام قلبــه فلـم يـره إِلا لحبـــك يصلح
هـوى غيركم نار تلظى ومحبـس وحبكـم الفردوس أَو هو أَفسـح
فيا ضيـم قلـب قـد تعلق غيركم ويا رحمة ممـا يجــول ويكـدح