بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم لا علم
لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ،
وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ،
وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس العشرين من دروس
الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومع زوجات النبي أمهات
المؤمنين ، ومع السيدة حبيبة بنت أبي سفيان ، وهي رملة بنت أبي سفيان زوج
النبي صلى الله عليه وسلم ، أسلمت قديماً ، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها
عبيد الله بن جحش ، ولها مأساة كبيرة جداً ، حدث عنها أخواها الخليفة
معاوية بن أبي سفيان ، وعنبسة ، وابن أخيها عبد الله بن عتبة ، وعروة بن
الزبير .
وكان لأم المؤمنين أم حبيبة مكانة عالية وحرمة
فائقة ، ولمكانتها قيل لأخيها معاوية : أنت خال المؤمنين ، لأن أخته أم
المؤمنين ، وهو أخوها ، فكان معاوية يدعى خالَ المؤمنين لمكانتها العلية
عند المسلمين .
يعني قبل أن أتابع الحديث المرأة تستطيع أن تصل
عند الله إلى أعلى مكانة ، ولا تمنعها أنوثتها أن تكون ولية لله ، ولا
يمنعها كأنثى أن تكون عالية القدر عند الله ، ولا يمنعها أن تسبق آلاف
الرجال ، هذه حقيقة ، أما نحن فعندنا فكر جاهلي ، أن هذا امرأة ، لا ، هناك
نساء صحابيات جليلات فُقْنَ الرجال ، بربكم هل تصدقون امرأة ترى زوجها
مقتولاً في ساحة المعركة ، ثم ترى أخاها مقتولاً ، ثم ترى أباها مقتولاً ،
ثم ترى ابنها مقتولاً ، وتقول : ما فعل رسول الله ؟ لم تطمئن حتى وقعت
عينها على شخص النبي ، فلما رأته معافًى سليماً قالت : يا رسول الله كل
مصيبة بعدك جلل ، أية امرأة هذه ؟! فالمرأة إذا عرفت ربها ، واستقامت على
أمره ، وأدت مهمتها التي أناطها الله بها تسبق الرجال .
أنا أتمنى أن زوجتك في البيت تعطيها نفَسًا قويًا
، تعطيها معنويات عالية ، بإمكانها أن تفوق ، وتتفوق ، بإمكانه أن تكون في
أعلى مقام ، ((اعلم أيتها المرأة وأعلم من دونك من النساء أن حسن تبعل
المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله)) ، والجهاد في سبيل الله ذروة
سنام الإسلام .
متاح لكل امرأة أن تكون بطلة ، متاح لكل امرأة أن
تدخل الجنة من أي أبوابها ، متاح لكل امرأة أن تسابق الرجال ، امرأة زاحمت
النبي عليه الصلاة والسلام هكذا تروي بعض الأحاديث : ((أول
من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي ،
قلت من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت
الزواج من أجلهن)) .
تنازع رسول الله في دخول الجنة ، فالمرأة مساوية
للرجل تماماً في التكليف والتشريف والمسؤولية ، إلا أن خصائصها غير خصائصه
، خصائصها مناسبة لأنوثتها ، وللمهمة التي أنيطت بها ، وخصائص الرجل مناسبة
لرجولته وللمهمة التي أنيطت به ، وهذا العصر خلط الأوراق ، أنت يمكنك أن
تقوم برحلة على متن (تراكس) ؟ مستحيل ، وتسخر سيارة سياحية من أجل بناء ،
هذا الذي يحصل ، خلطنا الأوراق ، وتشبهت النساء بالرجال ، والرجال بالنساء
.
أصبحت المرأة في غير موقعها مفسدة ، موقعها مقدس ،
موقعها أم ، موقعها زوجة ، موقعها أخت ، أصبحت ممتهنة ، أصبحت سلعة من
السلع ، أنت إذا أردت أن تروج أي سلعة تضع عليها امرأة شبه عارية ، حتى إن
مرة عدد كبير من نساء بريطانيا قمن بمظاهرة يحتجن بها على أن المرأة امتهنت
إلى درجة أنها سلعة من السلع ، لا تروج بضاعة في العالم كله إلا عن طريق
المرأة ، صورة مغرية لامرأة مع البضاعة ، أما المرأة المسلمة فإنها ملكة .
أعجبني من رجل سألته امرأة : لماذا يمنع أن نصافح
الرجال ؟ هو أجابها إجابة ليست شرعية ، ولكنها إجابة حكيمة ، ليس معنى
الشرعية ليست حكيمة ، ولكن في بلد أجنبي بعيد عن الدين بعدًا كبيرًا جداً ،
قال لها : لأن الملكة في بريطانيا لا يصافحها إلا سبعة رجال بالقانون
البريطاني ، ونساء المسلمات ملكات لا يصافحهن إلا سبعة رجال بالقانون
الرباني .
لما اشتد الأذى على المسلمين من الشركين في مكة ،
وأذن النبي عليه الصلاة والسلام للمسلمين المستضعفين بالهجرة فراراً بدينهم
إلى الحبشة هاجرت أم حبيبة مع زوجها عبيد الله مع من هاجر من الصحابة إلى
الحبشة ، وتحملت هذه الزوجة الكثير مما تحمله الصحابة من أجل إسلامهم ،
أنتم قبضتم الثمن ، أما الصحابة فقد دفعوا الثمن ، أنتم حملكم الإسلام ،
نشأتم في بلد إسلامي ، المساجد مفتوحة ، الصلاة لا شيء عليك بها ، تصلي في
البيت ، وفي المسجد ، والدروس قائمة ، والخطب قائمة ، وهناك مكتبة إسلامية
، ولك أن تفعل ما تشاء ، أما الصحابة فكانوا إذا صلوا يقتلون ، ففرّوا
بدينهم إلى الحبشة ليقيموا شعائر الله ، هم دفعوا الثمن ونحن قبضنا الثمن ،
هم حملوا الإسلام ، ونحن حَمَلَنا الإسلام .
تحملت أذى قومها ، وتحملت هجر أهلها ، والغربة عن
وطنها وديارها ، كل ذلك لتحيي حياة الإيمان والإسلام بعيداً عن الشرك
والعصيان ، وحينما استقرت في الحبشة آمنة مطمئنة فاجأتها محنة شديدة وعصيبة
، تلك المحنة هي ردة زوجها عن الإسلام ، وتنصره بعد أن هداه الله للإسلام ،
إنها محنة منكرة ، الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، والنجاشي أعلن
إسلامه ، وأسلم كبار البطارقة ، وهذه زوجها تنصر ، وشرب الخمر ، وعاقرها
حتى مات من شرب الخمر ، هل هناك محنة أقصى من هذه المحنة ! أقرب رجل إلى
المرأة زوجها ، زوجها أصبح يعاقر الخمر ، من البطولة إلى معاقرة الخمر .
هي ترى زوجها الذي هاجر معها من أجل إسلامه يترك
إسلامه ، ويدخل في دين أهل الحبشة ، وهي غريبة في ديار الغربة ، بعيدة عن
وطنها وأهلها .
أخرج ابن سعد عن ابن عمر بن سعيد الأموي قال :
قالت أم حبيبة : (رأيت في المنام كأن زوجي عبيد الله بأسوأ صورة ففزعت ،
فأصبحت فإذا به قد ترك دينه ، فأخبرته بالمنام فلم يحفل به ، وأكبّ على
الخمر حتى مات من شرب الخمر ، فأتاني آت في نومي فقال : يا أم المؤمنين
...) .
ربنا جلّ جلاله أحياناً يدعم الإنسان برؤيا صادقة
، كلمة يا أم المؤمنين أي ستغدو زوجة النبي عليه الصلاة والسلام .
ففزعت ، فما هو إلا أن انقضت عدتي ، فما
شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن لي ، فإذا هي جارية يقال لها أبرهة فقالت :
إن الملك يقول لك : وكِّلِي من يزوجك ، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص
بن أمية فوكلته ، فأعطيت أبرهة على بشارته سوارين من فضة ، فلما كان العشي
أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا ، وخطب النجاشي
، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، وتشهد ، ثم قال : أما بعد ؛ فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوجه أم حبيبة ، فأجبت ، وقد أصدقتها
عنه أربعمائة دينار ، ثم سكب الدنانير ، ثم خطب خالد بن سعيد فقال : قد
أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوجته أم حبيبة ، وقبض الدنانير ، وصنع
لهم النجاشي طعاماً .
إخواننا الكرام ... صدقوا أنه ما ترك عبد شيئاً لله إلا
عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ، والله أعرف شبابًا مؤمنين مستقيمين
ورعين كلُّ الطرق أمامهم مسدودة ، ولا يوجد أمل أن يتزوج ، هناك من طَرَقَ
بيته ، وعرض عليه ابنته مع بيت وفرش ، ومع مبلغ لتأمين حاجاته ، هذا شيء
دائم ، فما من إنسان يعف عن الحرام ابتغاء وجه الله إلا وله من الله معين ،
إلا وله من الله نصير ، العبرة أن تكون مطيعاً لله ، البطولة أن تطيعه ولا
تعبأ بما سوى ذلك ، فإذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك .
فامرأة مؤمنة طاهرة صحابية جليلة تترك قومها ،
وديارها ، وأهلها ، وتهاجر في سبيل دينها ، فإذا بزوجها يترك دينه ، ويعاقر
الخمر ، أصبحت غريبة مرتين ؛ فهي غريبة بعد أن ترك زوجها دينه ، وغريبة ،
وهي في بلاد الغربة ، كيف كوفئتْ مِن قبل الله عز وجل ؟ بأن أرسل النبي
عليه الصلاة والسلام إلى النجاشي أن وكلتك بتزويجي من أم حبيبة ، والنجاشي
دفع المهر ، وأولم ، ودعا المسلمين في الحبشة إلى طعام وليمة العرس .
قالت أم حبيبة : فلما وصل إليّ المال أعطيت أبرهة
منه خمسين ديناراً ... سوارين فضة ، وخمسين دينارًا ، فردتها إليّ
، وقالت إن الملك عزم عليّ بذلك ، يعني يبدو أنها صادقة ، أبلغت الملك أنها
أعطتها سوارين من فضة ، فزجرها ، وقال : أرجعي كل ذلك ، وردت عليّ ما كنت
أعطيتها أولاً ، ثم جاءتني من الغد بعود من الطيب ، وورس ، وعنبر ، فقدمت
به معي على رسول الله ...
قدمت لها هدية هذه الجارية ، ولما بلغ أبا سفيان
والدها ، وكان مشركاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ابنته قال : هو
الفحل لا يجدع أنفه ، أي أنه الكفء الكريم الذي لا يعاب ، ولا يرد .
كم هي عالية أخلاق النبي ، حتى إن هذا من أكبر
أعدائه ، أبو سفيان ناصبه العداء عشرين عاماً ، وحاربه ثلاث مرات ؛ في بدر
، وأحد ، والخندق ، ومع ذلك ماذا قال عنه ؟ قال : إنه الكفء الكريم الذي لا
يعاب ولا يرد ، معنى ذلك لو أن للمشركين على النبي مأخذاً واحداً لملؤوا
الدنيا صياحاً ، لكنه هو الكريم ابن الكريم ، الصادق ، الأمين ، الورع ،
هذا قبل البعثة ، اسمه الأمين أساساً .
أحد الرجال مغرر به ، مغسول دماغه يقول : إن كل
مال الكفار يجب أن نأخذه عنوة ، فلما قرأ أن النبي ترك في فراشه عليَ بن
أبي طالب ليردّ الأمانات إلى أهلها ، وكلهم مشركون ، معنى ذلك أن تفكيره
غلط ، إذا كنت تريد أن تبني إسلامك على العدوان فهذا الإسلام منبوذ ،
فالنبي عليه الصلاة والسلام ، وهو نبي الأمة ، وهو المشرع حينما هاجر ترك
علي بن أبي طالب في سريره ليردّ الأمانات إلى أهلها .
وسيدنا أبو العاصي لما أسلم كل ما معه من تجارة
ضخمة لكفار قريش صودرت في المدينة ، وعرضوا عليه الإسلام ، فإذا أسلم صارت
له ، قال : والله لا أبدأ إسلامي بهذا ، فعاد إلى مكة ، وأعطى كل ذي حق حقه
، ثم أعلن إسلامه .
إياك أن تخلط الدين بالدنيا ، إياك أن تأخذ
الدنيا ، وتعللها بالدين ، هذا لا يخفى على الناس ، أبو العاص ردّ الأموال
إلى أهلها ، ثم أعلن إسلامه ، وقال : والله لا أبدأ إسلامي بهذا .
عادت هذه المهاجرة عقب فتح النبي خيبر ، يعني بقي
هؤلاء الصحابة في الحبشة ثلاثة عشر عاماً يصلون ، ويصومون ، ويعبدون الله
عز وجل ، كم هي الحوادث صعبة ، إنسان مبعد عن أهله ثلاثة عشر عاماً ، ولم
يكن ذنبه إلا أن يقول ربي الله .
عادوا مع جعفر بن أبي طالب ومن معه ، وقد سرّ
النبي عليه الصلاة والسلام أيما سرور بمجيء هؤلاء الصحابة بعد غياب طويل ،
ومعهم الزوجة الصابرة الطاهرة الكريمة ، إنهم خرجوا من مكة فارين بدينهم من
الشرك ، واليوم يعودون ، وأمر الإسلام يعلو ، وسلطانه يمتد ، فلا خوف من
ظلم ، ولا إرهاب ، وعندما حلّوا بالمدينة استقبلهم النبي عليه الصلاة
والسلام مسروراً مبتهجًا ، وهو يقول : والله لا أدري بأيِّهم أفرح ، بفتح
خيبر ، أم بقدوم جعفر؟.
هناك حب حقيقي ، أنا أقول لكم نحن نحتاج إلى الحب
، نصوص موجودة ، وكتب موجودة ، وكل شيء موجود ، مساجد ضخمة ، شيء جميل جداً
؛ مساجد ، مكتبات ، مؤتمرات ، المظاهر الدينية صارخة الآن ، وثمة عدوات ،
وحسد ، وبغي ، ومصالح ، وأهواء ، لذلك : [وَلاَ تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا] .
استقبل النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بشكل غير
معقول من شدة الفرح قال : لا أدري بأيِّهما أنا أفرح ، بفتح خيبر أم بقدوم
جعفر؟ .
هناك لطيفة لا بأس من ذكرها ، عن أبي موسى الشعري
قال : كان أناس يقولون لنا : سبقناكم بالهجرة ، ودخلت أسماء بنت عميس ،
وكانت مع مهاجري الحبشة على حفصة زوج النبي زائرة ، فدخل عمر على حفصة ،
وأسماء عندها ، فقال حين رأى أسماء : من هذه ؟ قالت : هذه أسماء بنت عميس ،
قال عمر : الحبشية ، هذه البحرية ، قالت أسماء : نعم ، قال عمر : سبقناكم
بالهجرة ، فنحن أحق برسول الله منكم ، فغضبت وقالت : كلا ، والله ، كنتم مع
رسول الله يطعم جائعكم ، ويرشد جاهلكم ، وكنا في أرض العداء البغضاء ، وذلك
في الله ، وفي رسول الله ، وايم الله لا أطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً حتى
أذكر ما قلت لرسول الله ، وقالت له : والله لا أكذب ، ولا أزيغ ، ولا أزيد
عليه ، أنت قلت : سبقناكم بالهجرة ، أنا سأذهب إلى النبي ، وأنقل ما قلته
لي ، فإن أقر قولك قبلته ، وإن لم يقره سأنقله إليك دون زيادة .
فلما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : يا
نبي الله إن عمر قال كذا وكذا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ماذا قلت له ؟
قالت : قلت له كذا وكذا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ليس بأحق بي منكم ،
وله ولأصحابه هجرة واحدة ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان .
أنتم هاجرتم مرتين مرة إلى الحبشة ، ومرة إلى
المدينة ، اعتزاز الإنسان بإيمانه ، سيدنا عمر قال كلمة لا تعني كثيراً :
نحن سبقناكم بالهجرة ، والنبي عليه الصلاة والسلام جبار الخواطر ، من عظمة
هذا النبي العظيم أن كل صحابي من صحابته كان يظن أنه أقرب الناس له ، هذه
بطولة ، الصغار أحياناً يخصون بعض الناس باهتمامهم ، يقربون لهم بعض
الأشخاص ، ويهملون الباقين ، هذا شيء من الفجاجة في قيادة الدعوة ، أنت لكل
.
مرة إنسان بعيد عن الدين بعد السماء عن الأرض في
فرنسا ، نجح في الانتخابات ، فألقى خطابًا في أربع كلمات ، قال : أنا أشكر
من انتخبني ، وأحترم من لم ينتخبني ، وأنا لكل الفرنسيين ، وهذا إنسان كافر
، ليس فيه دين ، يقول : أنا لكل هؤلاء ، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد
الخلق ، وحبيب الحق ، هو لكل المؤمنين ، لكلهم بعطفه ، ومحبته ، و، وفائه
وقربه ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال : لن يمضي وقت على هؤلاء
المهاجرين العادين حتى اكتسبوا ما فاتهم من علم القرآن والسنة طوال غيابهم
، ثم انتسبوا في مواكب الجهاد مع من سبقوهم بإحسان ، وقد أشركهم النبي في
مغانم خيبر .
هذه لها معنى عميق ، يعني كأنهم حضروا غزوة خيبر
، أشرك النبي من هاجر إلى الحبشة في مغانم خيبر مع أهل الحديبية .
وما أن وصلت أم حبيبة رضوان الله عليه إلى
المدينة بعد تلك الغربة الطويلة والأعجوبة المريرة حتى استقبلها النبي عليه
الصلاة والسلام بالسرور والبهجة ، وأنزلها إحدى حجراته بجوار زوجاته
الأخريات ، واحتفل نساء المدينة بدخول أم حبيبة بنت سفيان بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهنَّ يحملن إليها التحيات ، والتبريكات ، والتهاني ،
والأمنيات بهذا الزواج المبارك ، وقد أولم خالها عثمان بن عفان وليمة حافلة
نحر فيها الذبائح ، وأطعم الناس اللحم فرحًا وبهجة بهذا الزواج الميمون ،
واستقبل أمهات المؤمنين هذه الشريكة الكريمة بالإكرام والترحاب ، ومن بينهن
صفية العروس الجديدة التي لم يمض على عرسها أيام معدودات ، لأنها جاءت من
خيبر ، وقد أبدت السيدة عائشة استعداداً لاستقبال الزوجة الجديدة التي لم
تثر فيها حفيظة الغيرة حين رأتها ، وقد قاربت سن الأربعين ، وتعيش أم حبيبة
بجوار صواحبها الضرائر بكل سعادة وأمان .
حضر أبو سفيان إلى المدينة ، قصة طويلة ، صلح
الحديبية فيه شرط ، وهو في ظاهره لصالح قريش ، أما في الحقيقة فقد انقلب
عليهم ، فمن خرج من المسلمين إلى مكة مرتداً خذوه ، أما من جاءنا منكم
مسلماً نرده ، ليس هناك تكافؤ ، فهذا الشرط لم يقبله سيدنا عمر ، وقال :
علام نعطي الدنية في ديننا ، قال له سيدنا الصديق : إلزم حجرك ، هو رسول
الله ، هذا الشرط من غرائب الصدف ، فهو في ظاهره مهانة ، أما عملياً فهؤلاء
الذين جاؤوا وردَّهم النبي شكَّلوا عصابة قطعوا الطريق على أهل مكة ، فضجرت
تجارتهم ، لأن الطريق غير آمن ، فجاء أبو سفيان إلى النبي يرجوه ، ويتوسل
إليه أن يلغي هذا الشرط ، أيّ واحد أسلم من عندنا فاقبلوه ، ليس هناك مانع
، فالنبي لم يرض ، هذا هو سبب مجيء أبي سفيان إلى المدينة .
لقد حضر أبو سفيان والد أم حبيبة المدينة يطلب من
النبي عليه الصلاة والسلام أن يمد في أجل الهدنة التي تمت المصالحة عليها
في الحديبية فيأبى عليه النبي هذا الطلب ، أراد أبو سفيان أن يستعين على
تحقيق الطلب بابنته زوجة النبي ، فدخل دار أم حبيبة ، وفوجئت به يدخل بيتها
، وما رأته من خمسة عشر عاماً ، ولم تكن قد رأته منذ أن هاجرت إلى الحبشة ،
فلاقته بالحيرة ، فلا تدري أترده لكونه مشركاً ، أم تستقبله لكونه أباً ؟ ،
وأدرك أبو سفيان ما تعانيه ابنته ، فأعفاها من أن تأذن له بالجلوس ، وتقدم
من تلقاء نفسه ليجلس على فراش رسول الله ، فما راعه إلا وابنته تجذب الفراش
من تحته لئلا يجلس عليه ، فسألها بدهشة : يا بنية أرغبتِ بهذا الفراش عني
أم بي عنه ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله ، وأنت امرؤ نجس مشرك ، فقال :
يا بنية لقد أصابك بعدي شرٌّ ، وخرج من بيتها خائب الرجاء .
الإسلام فرق بين الكفر والإيمان ، انتماء المسلم
إلى إيمانه قوي .
وبعد أن خرج أبو سفيان من بيت ابنته توجه إلى
النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد علم من أمر ابنته ما علم ، فكلمه أبو
سفيان في العهد فلم يجبه بشيء ، فأجابه علي فقال : ويحك يا أبا سفيان ،
والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه به
، له هيبة كبيرة ، صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو سفيان : يا أبا الحسن ،
إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني ؟ قال : والله لا أعلم لك شيئاً
يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، أي أن الناس بمكة
بجواري ، أي بحمايتي ، ثم الحق بأرضك ، يعني أجر أهل مكة ، قال : أو ترى
هذا مغنياً عني شيئا ، قال : لا والله ، لا أظنه مغنياً عنك شيئاً ، ولكنني
لا أجد لك غير ذلك ، طلب من النبي فرفض ، سيدنا الصديق رفض ، سيدنا عمر رفض
، سيدنا علي قال شيئاً لا يقدم ولا يؤخر : أجر أهل مكة .
فذهب أبو سفيان حتى وقف في مسجد النبي ، والناس
مجتمعون للصلاة فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره
فانطلق ، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يجبه بشيء ، ولم يردّ عليه الصحابة
بكلمة ، فلما قدم على قريش أخبرهم بما جرى معه ، وأنه جاء علياً فوجده ألين
القوم ، وقال عليّ شيئًا صنعته ، فوالله لا أدري هل يغني هذا شيئاً أم لا ؟
قالوا : وبما أشار عليك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت ، قالوا :
فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا ، قالوا : ويلك والله إذا زاد الرجل أن لعب
بك ، فما يغني عنك ما قلت ، قال : لا والله ما وجدت غير ذلك ، يعني عاد
خائباً ، ما حقق شيئاً .
الحقيقة أم حبيبة ، لما نقضت قريش عهدها مع رسول
الله لم يكن من أم حبيبة لأبيها وأخيها أي عون أو مساعدة إلا أنها تدعو
الله بالهداية لأبيها وقومها ، ولعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام
راقبنها ، وهي في موقفها ذاك الحرج ، ترى جيش رسول الله يتأهب ليأخذ قومها
على غرة ، ومكة لا تزال في حيرة من الأمر ، وأبوها يحمل إلى قريش خيبة
الرجاء ، والحقيقة هذا موقف صعب ، أبوها وقومها وزوجها النبي ، وكما يقول
كتاب السيرة لا تراها أغلى عليها من المسلمين ، وهي التي هجرت أهلها وقومها
ثلاثة عشر عاماً في الحبشة فرارًا بدينها من أذاهم .
ولما تم فتح مكة ، وطارت البشرى إلى أهل المدينة
بنصر الله والفتح ، وما تسامع الناس بما كان من لقاء النبي بأبي سفيان ،
وقد أجاره العباس ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم معه حيث قال : ويحك يا
أبا سفيان ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ، قال أبو سفيان : بأبي
أنت وأمي ما أحلمك ، وما أكرمك ، وما أوصلك ، وما أحكمك ، وأبو سفيان زعيم
قريش ، وأحد أكبر قادتها يرى أن النبي في أعلى مكان من الحكمة ، والكرم ،
والرحمة ، والصلة قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وما أكرمك ، وما أحكمك ،
وما أوصلك ، والله إني لظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئاً
عنّا .
حسب اعتقاده لا إله إلا الله ، فقال عليه الصلاة
والسلام : ويحك يا أبا سفيان أم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله ! قال أبو
سفيان : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وما أكرمك ، وما أوصلك ، أما هذه فوالله
إنه لفي النفس منها حتى الآن شيء ، اقتنع أنه لا إله إلا الله ، أما محمد
رسول الله فهذا ليس بعد .
فزجره العباس على مقالته هذه زجراً قاسياً ، وقال
: ما لبث أبو سفيان إلا أن أعلن إسلامه ، أسلم في وقت متأخر جداً بعد أن
حارب النبي عشرين عاماً ، هكذا سمعت ، أو قرأت ، وقف على باب عمر فلم يؤذن
له ، ورأى أبو سفيان بلالاً وصهيبًا يدخلان بلا استئذان فتألم ، فلما قابل
عمر قال : زعيم قريش يقف بابك ساعات وبلال وصهيب يدخلان بلا استئذان ، قال
له : أنت مثلهما ؟!.
أسلم في وقت متأخر جداً بعد أن فتحت مكة ، وبعد
أن كان لا بدّ له أن يسلم فأسلم .
الآن في بعض الصحابة كانوا حكيمين جداً قال :
فالتمس العباس من النبي أن يكرم الرجل بشيء يرضي كبريائه ، فأجابه النبي
عليه الصلاة والسلام : نعم ، وقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن
أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل بيت الله الحرام فهو آمن ، هذا كرمه.
وطارت أصداء هذا الحدث الجلل المبارك حتى بلغ سمع
أم حبيبة ، الآن هي طارت من الفرح ، فإذا أخ من إخواننا اهتدى إلى الله
فأقرب الناس إليه لا يزال في زيغ ، يتألم أشد الألم ، أما إذا فوجئ أن هذا
القريب صار مثله مؤمناً ، أخ يحضر الدروس ، ويستفيد ، ويتوب ، ويصطلح مع
الله زوجته سافرة ، بعد مدة فوجئ بأنها قد تحجبت ، يمتلئ قلبه من الفرح
بشكل لا يوصف .
فرحتْ فرحاً شديداً ، وشكرت الله تعالى أن حقق
لها أمنيتها ورجاءها في إسلام أبيها وقومها .
وأنا أنصحكم ، إذا كان لديك قريب منحرف شارد ضال
لا يلتزم فادع له بالهداية ، وإذا اصطلح الإنسان مع الله ، أنا في تاريخ
الدعوة أشخاص كثيرون جداً قالوا لي كلامًا متشابهًا ، قال لي أحدهم : ليس
هناك معصية تتصورها إلا وفعلتها إلا القتل ، ثم تاب إلى الله ، وعاد إليه ،
سيدنا عمر دخل عمير على رسول الله والخنزير أحب إليّ منه ، وخرج من عنده
وهو أحب إليّ من بعض أولادي ، ليس هناك عداوة مستمرة ، وكل إنسانا تراه
بعيداً شارداً فظلاً غليظاً فادع له بالهداية كما دعت أم حبيبة ربها بهداية
أبيها وقومها ، الآن فرحتها عظيمة ، لكن موقفها كان مشرفاً ، قالت له : أنت
نجس مشرك ، وهذا فراش رسول الله ، انظر الولاء ، ولاؤك لله ورسوله ، أما
قلبك فإنك تتمنى أن يهتدي من هم أقرب الناس إليك ، هذا تمنٍّ شريف .
وكانت رضي الله عنها قد رأت أنه قد أزيح عن
كاهلها عبء الحزن على عدم إسلام أبيها وقومها ، وقد اعتبر يوم الفتح يوم
فتح لفرحتها ، وسرورها ، وسعادتها بنجاة أبيها من الخلود في النار .
والله بعض الإخوة الكرام عندهم حرقة على أوليائهم
، وعلى آبائهم ، أنا أكبرهم عليها كثيراً ، الأب عمره ستون سنة لا يصلي ،
وبعيد عن الدين ، وابنه متألق يرى أباه هكذا .
قبل وفاتها أرسلت إلى عائشة كما روى ذلك ابن سعد
عنها قالت : دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت : قد كان يكون بيننا ما يكون
من الضرائر فتحللي من ذلك ، فحللتها من ذلك واستغفرت لها ، فقالت لي :
سررتِني سرّك الله .
إذا أخطأ إنسان مع أخيه ، وقال له سامحني ، فليس
هناك ألطف من الاعتذار ، كان بين عائشة وبين أم حبيبة ما كان بين الضرائر ،
وهذا الشيء مألوف ، قبل وفاتها طلبت المعذرة من السيدة عائشة ، وأرسلت بمثل
ذلك إلى باقي ضرائرها ، وتوفيت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين ، ودفنت
بالبقيع .
مرة كنت في العمرة ، والفندق مطل على البقيع ،
والطابق عالٍ ، أنظر إلى البقيع كل أصحاب النبي فيه ، أعلام ، سيدنا عثمان
، والسيدة عائشة ، وزوجات النبي ، وبنات النبي ، شيء لا يصدق ، النبي عليه
الصلاة والسلام كان عصره عصر الأبطال ، قال : ((إن
الله اختارني واختار لي أصحابي)) .
أيها الإخوة ... والله الذي لا إله إلا هو إنّ
أبواب البطولة مفتحة على مصارعيها في كل مكان وزمان ، إله الصحابة هو إلهنا
، والوسائل هي نفسها ، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، ومتاح لك
أن تكون بطلاً في كل عصر ، الشرع أمرك ، والقرآن بين يديك ، والسنة بين
يديك ، وبإمكانك أن تصل إلى الله بطاعته والإحسان إلى خلقه ، والولاء لله
ورسوله ، هذا ولاء أم حبيبة عجيب ، أبوها يدخل بيتها تسحب من تحته الفراش ،
وتقول : هذا فراش رسول الله ، وأنت نجس مشرك ، ما هذا الولاء ؟ طيب في
أعماقها دعاء إلى الله بهداية أبيها وقومها ، هذا الموقف الأكمل ، إذا أنت
واليت إنسانًا فاسقًا منحرفًا فموالاتك له طعن في إيمانك ، ولاؤك للمؤمنين
، ودعاؤك لمن حولك من أقربائك ، الولاء للمؤمنين والدعاء للشاردين ، أما
الولاء للشاردين والقسوة على المؤمنين فلا .
الله عز وجل وصف المؤمنين بأنهم أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين ، الناس بالعكس ، على المؤمنين قساة جداً ، أما
أمام الأقوياء فضعاف جداً ، يستخزي ، ويذل أمام قوي ، ويقسو على المؤمن
لتوهمه أنه ضعيف ، هذا موقف مسجل عليه ، يقسو على المؤمنين لاعتقاده لا
ناصر لهم في هذه الدنيا ، ويستخزي أمام الكافرين ويخنع لهم ، أما المؤمن
يذل للمؤمن ، ويكون عزيزاً أمام الكافر ، ومن جلس إلى غني فتضعضع له ذهب
ثلثا دينه .
والحمد لله رب العالمين .